ويرى خبراء أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تسببت بها جائحة كورونا والإحساس باليأس والتهميش، كلها عوامل ضاعفت من أرقام هذه الظاهرة التي لم يسلم منها الأطفال ولا الأشخاص المتدينون.

في السنة الماضية ،دقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر، وقالت إنه في كل 40 ثانية هناك حالة انتحار عبر العالم، كما ذكرت أن معدلات الانتحار في الدول النامية وفي شمال إفريقيا مرتفعة جدا مقارنة بدول أخرى.

وبدورها، سلطت المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب، وهي جهاز الإحصاء الرسمي في البلاد، الضوء على الصحة النفسية بالمغرب في زمن الحجر الصحي والجائحة، وتحدثت عن الارتفاع الكبير للعديد من الاضطرابات النفسية بالمغرب، وعن تأثير جائحة كورونا على الصحة النفسية للمواطنين، خاصة النساء اللواتي تحملن أعباء كثيرة، مما انعكس على توازنهن النفسي.

وعلى الرغم من غياب أرقام دقيقة حول أعداد المنتحرين بالمغرب، إلا أن وسائل الإعلام تطالعنا كل يوم بأخبار الانتحار، كما أن المنتحرين أنفسهم صاروا يوثقون عملية الانتحار بالفيديو، ومنهم من نشرها مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو يتركون رسائل تفصح عن معاناتهم الكبيرة.

في 21 فبراير 2020، انتحر ثلاثة أشخاص في مدينة برشيد، غربي المغرب، إضافة إلى انتحار ما يفوق 20 شخصا في شفشاون، شمالي البلاد، من نهاية 2019 حتى بداية 2020، كما انتحر شخص بفاس لم يستفد من الدعم وتركه رسالة “كانموت بالجوع”.

وينضاف إلى هؤلاء منتحرون أطفال ومسنون ورجال شرطة ينهون حياتهم بالأسلحة الوظيفية، كما ينتحر أجانب مثل القنصل الفرنسي في مدينة طنجة.

وعن تنامي ظاهرة الانتحار بالمغرب يقول فيصل طهاري، الطبيب النفسي المتخصص في علم النفس الإكلينيكي، في تصريح لـ “سكاي نيوز عربية”، إنها ليست حكرا على المغرب، بل العالم كله يعرف ارتفاعا في أعداد المنتحرين، حيث حذرت منظمة الصحة العالمية من هذا القاتل الصامت، الذي تزايدت معدلاته مع جائحة كورونا، وسجل ارتفاعا في الدول النامية وفي شمال إفريقيا مقارنة بدول أخرى.

وأردف أن “هذا له علاقة بمدى اهتمام كل بلد بالصحة العقلية والنفسية لمواطنيها، وسهولة الاستفادة من المنظومة الصحية، خصوصا في شقها المتعلق بالصحة النفسية والعقلية. وللأسف فالمغرب لا يتوفر إلا على قلة قليلة من المعالجين النفسانيين، فلكل مليون نسمة هناك بضعة أطباء نفسانيين فقط، كما أن هناك أقاليم لا تتوفر على طبيب نفسي، وهذا أمر صعب جدا، وهو ما يؤخر تدخل المختص والقيام بالتشخيص المبكر للاضطراب، مما يؤدي إلى ارتفاع هذه الظاهرة ببلادنا”.

ويضيف الأخصائي النفسي أن المغرب لا يتوفر على أرقام واضحة بخصوص أعداد المنتحرين بسبب الحجر الصحي والجائحة، لكن أسباب ودوافع الانتحار الانتحار تعود في مجملها إلى الوضع الاقتصادي والبطالة والوضع الاجتماعي الصعب التي سببت ضغطا على نفسية الإنسان، خاصة في فترة الجائحة، كما أن تسريح العمال، وتوقيف العديد من الأنشطة، والقطاعات غير المهيكلة المتضررة، والضغط والاحتقان الاجتماعي كلها ساهمت في تدمير نفسية الإنسان، وجعلته عرضة للاكتئاب والاضطرابات النفسية، ودفعت به بالتالي إلى الانتحار.

هناك دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط في عام 2020 تحدثت عن الصحة النفسية عموما، وعن تأثير الجائحة على نفسية المواطنين، وأظهرت بأن هناك ارتفاعا كبيرا على مستوى اضطرابات كثيرة، منها؛ الاكتئاب، والقلق، والوسواس والقهري، ونوبات الهلع، وهذا يدل على أن هناك معاناة نفسية ووضعية ضاغطة في فترة الحجر الصحي وهو ما ستترتب عنه نتائج وخيمة، وستجعل حالات الانتحار ترتفع.

تهديد حقيقي

ويوضح الدكتور فيصل طهاري لـ “سكاي نيوز عربية” أن “الانتحار يشكل تهديدا حقيقيا في المغرب، خاصة أن البلد يشهد ضعفا في البنيات التحتية الخاصة بالصحة النفسية والعقلية، وأحيانا يكون الوصول إليها قليل جدا، كما أن التوعية بأهمية الصحة النفسية يظل غائبا بشكل كبير، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع حالات الانتحار، والتي يربطها أغلب الناس والأسر المغربية بقلة الإيمان، وهو تفسير خاطئ، لأن الإنسان حينما يدخل في دوامة المرض النفسي يمكن أن يكون إيمانه أقوى منا بكثير، ولكن المرض النفسي يتمكن منه ويهدد حياته ويجعل مناعته النفسية تضعف ويصبح غير قادر على تحمل تلك المعاناة النفسية، ولا يجد أمامه من حل إلا وضع حد لحياته عبر الانتحار”.

ويؤكد الأخصائي النفسي أن المغرب قام في السنوات الأخيرة بترميم العديد من المستشفيات المهترئة، وبناء بعض المصحات، ولكنها مازالت بعيدة عن المطلوب، لأن أغلب المستشفيات متمركزة في وسط البلد، في حين هناك مدن وأقاليم وجهات تفتقر للمستشفيات ولعدد من الأطباء النفسانيين، ولازالت هناك صعوبة لولوج تلك المؤسسات الاستشفائية. ويشير إلى أن الأرقام مقلقة جدا، ليس على مستوى الانتحار فقط بل على مستوى الاضطرابات النفسية.

الصحة النفسية

هناك دراسات أكدت أن نصف المغاربة أو أكثر بقليل يعانون أو سبق لهم المعاناة من اضطرابات نفسية، وهو ما يستدعي تدخلا للمسؤولين عن القطاع لكي نصل بالفعل إلى التشخيص المبكر للاضطرابات النفسية منذ بداية ظهورها، ولا ننتظر حتى تصل الأمور إلى وضع وخيم، لأن “الانتحار، سواء ذلك الناتج عن الاضطرابات العصابية أو الذهانية، ينتج بسبب غياب التشخيص أو التشخيص المتأخر جدا، لأن أغلب المنتحرين لم يزوروا أي طبيب من قبل، ولهذا فمن الضروري تحسيس الأسر المغربية بأهمية الصحة النفسية، وحث الدولة على الوفاء بمسؤولياتها تجاه المواطنين، وتوفر أطباء ومعالجين ومصحات استشفاء خاصة يلج إليها المرضى بشكل سهل وسلس للاستشفاء، حتى يتم التخفيف من الضغط الذي تعرفه المستشفيات العمومية، ولا يظل المرضى رهيني مواعيد طويلة جدا”.

تتعدد أساليب الانتحار، ولكن أكثرها انتشارا في المغرب هو الشنق، والارتماء من أعلى البنايات، وتناول المواد السامة، والارتماء أمام القطار، والانتحار بإطلاق الرصاص الوظيفي أو بالأسلحة الحادة، ولا يسلم من هذه الظاهرة الأطفال والمراهقون، الذين سجلت في صفوفهم حالات كثيرة، إما بسبب الفشل الدراسي أو الفشل العاطفي أو الاكتئاب الحاد، ولهذا طالب الأخصائيون السلطات في فترة الحجر الصحي السماح للأطفال الخروج من منازلهم من أجل الترويح عن أنفسهم، والتنفيس من الضغط الذي عانوه بسبب الجائحة.

الأطفال يصابون أيضا بالاكتئاب والاضطرابات النفسية، ولهذا نجد معدلات الانتحار في صفوفهم كبيرة جدا، وهذا في غفلة من الأسر، التي تستبعد الطفل من دائرة التأثر بالضغوط، كما يقول الأخصائي النفسي فيصل طهاري، الذي دعا إلى ضرورة الانتباه إلى الأطفال، خصوصا أنه يمكن رصد علامات القلق والاكتئاب لديهم، حينما ينعزلون ويقل نشاطهم، فهذه كلها مؤشرات تدل على أنه يجب الاهتمام بصحتهم النفسية ومساعدتهم على تجاوز تلك المرحلة عبر عرضهم على الأخصائيين.

وتجدر الإشارة إلى أن العصبة المغربية لحقوق الإنسان قد أصدرت عام 2019 تقريرا عن الصحة النفسية والعقلية بالمغربية، أعلنت فيه أن 48 في المائة من المغاربة يعانون من مرض نفسي أو عقلي؛ أي إن شخصا من بين اثنين يعاني من اضطراب عقلي أو نفسي.

وانتقدت فيه المنظمة الحقوقية انعدام تكوين الأطباء المختصين في الطب العقلي والممرضين المختصين، قائلة إن المغرب لا يتوفر إلا على 197 طبيبا نفسيا يشتغلون في القطاع العمومي، وهو رقم ضعيف بالنظر إلى المعدل العالمي، إذ يفترض، حسب المعايير الدولية، أن يتوفر 3.66 طبيبا مختصا لكل 100 ألف نسمة، في حين لا يوفر المغرب سوى أقل من مختص أي 0.63 لكل مائة ألف نسمة.

المصدر : سكاي نيوز عربية