من عالم ” البرشمان” الى عالم المال والبيان

من عالم ” البرشمان” الى عالم المال والبيان

خالد الشلح 

في زمن صار فيه التافهون أعيانًا، والثرثرة رأس مال، والوقاحة جواز عبور إلى نادي المال والنفوذ، تطل علينا قصة صاحبنا الذي دخل نادي الانتهازيون الجدد )les opportunistes affamés du pouvoir ) والذي قفز من عالم الخياطة و “البرشمان” إلى عالم الملايير، لا على ظهر كفاءة ولا بجهد عرق، بل على أكتاف من صدقوا كذبه، وباركوا له صعوده، وصفقوا له وهو يتسلق سلالم المجد المصنوع من ورق مقوى.

كان بالأمس يحيك الغرز و (السفيفة والصابرة ولخياطة على شعرة ) ، يلهث خلف لقمة عيشه بين خيوط الإبرة وعقدة الخيط، واليوم يتبختر في المجالس بساعة يد تساوي خمسين مليونًا، وكأن الزمن صار يُقاس بثمن الساعة لا بقيمة الإنسان. يتحدث عن “النجاح” وكأنه اخترع البارود، ويُسهب في الحديث عن “الفرص” التي لا تأتي إلا لمن “يستحق”، متناسيًا أن أول فرصة حقيقية في حياته كانت على يد سيدة أنقذته من الفقر، أطعمته حين جاع، وسترته حين عُري، فتنكر لها كما يتنكر الثعلب لآثار قدميه في الوحل.

صاحبنا لم ينسج ثروته بخيوط العمل الشريف، بل حاكها بدهاء الثعالب، وجمع حوله جوقة من المنعشين العقاريين الذين يتقنون فن التمثيل الخيري ،  جعلوه ناطقهم الرسمي، وقاضي حوائجهم، ووسيطهم المفضل لدى المؤسسات، لأنه يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف تُفتح الأبواب المغلقة بالمجاملات والولائم والابتسامات الصفراء.

أما صاحبة الجاكوزي وواقعة ( الكريك ) فقصتها فصل آخر من فصول العبث سنعود لها مستقبلا.

في عالم كهذا، يصبح التافه نجمًا، ويُقصى الشريف إلى الهامش. يكافأ التنكر للجميل ، ويُعاقب الوفاء. تُرفع القامات الخاوية، وتُقصم ظهور من حملوا القيم على أكتافهم. صاحبنا ليس حالة شاذة، بل هو مرآة لمجتمع اختلطت فيه المعايير، وصار فيه المال غاية، والتملق وسيلة، والكرامة سلعة قابلة للتفاوض.

لكن، لا بأس. فالتاريخ لا ينسى، والذاكرة الشعبية لا تمحو بسهولة. سيأتي يوم تُروى فيه هذه القصة في كتب تُدرّس، لا كقصة نجاح، بل كعبرة لمن يظن أن المال يصنع الإنسان. سيُكتب أن صاحبنا باع ماضيه، وخان من أحسن إليه، واعتدى على الضعفاء، ثم جلس على أسس من ورق، ينتظر أول ريح تسقطه.

وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نرفع القبعة، لا لصاحب الساعة الباهظة، بل لتلك السيدة التي أنقذته ذات يوم، ولجميع من رفضوا أن يكونوا جزءا من جوقة التصفيق للتفاهة.. فهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون، وان لم يظهروا على الشاشات ، ولم يلبسوا ساعات ب 50 مليون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *