الفساد النسقي والدولة السلطوية حالة الجزائر منذ الاستقلال

عبدالقادر كتـــرة
أثار انتباهي عنوان كتاب للدكتور “محمد حليم ليمام” والذي هو في الأصل أطروحة قدمت لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
وقد نوقشت وأجيزت في جامعة الجزائر الثالثة، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بتاريخ 26 يونيو 2016، ونشرها مركز دراسات الوحدة العربية في سلسلة أطروحات الدكتوراه (127) تحت عنوان “الفساد النسقي والدولة السلطوية حالة الجزائر منذ الاستقلال”.
شدت اهتمامي مقدمة الكتاب وارتأيت أن تشاركوني قراءاتها:
“لم تجد ظاهرة الفساد في الجزائر حتى الآن تشريحاً يسمح بفهم طبيعتها ومقوماتها على الرغم من أنها صارت منذ مدة موضوعاً مهيمناً رسمياً وإعلامياً وشعبياً.
بل إن الحكومة، وبمناسبة وضعها تشريعاً لمنع الفساد والوقاية منه (2006)، سمحت بإقرار موضوع مكافحة الفساد في البرامج التربوية والجامعية ربما يكون من مبررات نقص العناية بفهم الفساد، غياب إرادة حقيقية للتصدي بحزم لظاهرة تشكل خطراً حقيقياً على جميع الصعد وفي جميع مجالات الحياة. فانعدام الإرادة السياسية لمكافحة الفساد والحد منه، يعد واحداً من المؤشرات التي تضع الدولة في سلم البلدان ذات الحكم السيئ.
وإذا كان فهم مشكلة الفساد جزءاً أساسياً من حلها، فإن هذا يجر إلى القول: إن التصور الموجود لدى القائمين على سياسة مكافحة الفساد الهيئات الرسمية بأن الفساد أمر عادي، ومحاربته تستوجب تعزيز الترسانة القانونية والإجراءات الإدارية، والتوجه مباشرة إلى الكوادر، وغرس ثقافة النزاهة والشفافية فيهم، هو تصور أفضى إلى تقديم حقائق بعيدة كل البعد من الواقع، وشجع على تنفيه (Banalisation) ظاهرة الفساد بدلاً من شجبها.
وهكذا، عوض تشجيع المناقشة العلمية للموضوع، والدعوة إلى فهم صريح لظاهرة الفساد، يستمر التعتيم على وعي الأفراد بحجم الفساد، وبصعوبة اجتثائه، وإدراكهم لتواضع أداء الحكومة في مجال الحد منه. وتالياً، لنا أن نتساءل: هل هذا التعتيم مقصود؟
هذه الدراسة محاولة لفهم طبيعة ظاهرة الفساد في الجزائر، من خلال بحث العلاقة بين توغل الفساد وتغلغل الاستبداد منذ الاستقلال، من منطلق أن مقومات السلطوية هي متلازمات النمط الفساد النسقي، وهذا الأخير يشكل بدوره سنداً وأساساً وعاملاً رئيساً لاستدامة السلطوية.
لكن الدراسة لن تعالج موضوع قياس الفساد أو تتعرض لتحليل قضاياه، أو بحث تكاليفه، وطرائق التصدي له، كما أن الأمر لا يتعلق بتحري تفاصيل الواقع، والتعليق عليها، بل محاولة الاستنباط.
المغزى السلطوي لمسألة تفشي الفساد في الدولة، وفهم كيفية تمفصل ظاهرتي الفساد والسلطوية. قبل مناقشة هذه الإشكالية، نتساءل: كيف يمكن فهم الفساد النسقي ؟
فساد الحكم والحكم بالفساد
اهتم الباحثون مؤخراً وعلى نحو غير مسبوق بمسألة فشل الإصلاح في الدول التي ينخرها الفساد، وعواقب ذلك على الحكم والسياسات فيها، إذ نالت الأنظمة الديمقراطية والسلطوية قسطاً وافراً من التحليل من أجل فهم تغلغل الفساد، في مقابل عقم سياسات مكافحته.
في الحالة الأولى، تطرح مسألة العلاقة بين متانة أو هشاشة المؤسسات والمشاركة في المجال السياسي والاقتصادي، ومدى التوازن القائم بينهما.
وهنا، ينظر إلى دور اللامساواة أولاً، في زيادة التوقعات، في ما يتعلق بتقوية المصالح الخاصة، وإمكانية وصولها إلى التأثير في صنع القرار والسياسات من طريق استخدام التأثير والرشوة.
وثانياً، في دورها في تعزيز السياسات الزبونية، علماً أن الزبونية السياسية تكون وليدة العملية الانتخابية التي يشوبها الفساد”.
إن أهم ما في الديمقراطية تكافؤ الفرص، والمساواة بين المواطنين في ممارسة حق اختيار من يمثلهم وتكافؤ الأصوات لاختيار من يصل إلى السلطة وكيفية حيازتها. وهنا يفترض أن تكون النزاهة في عمل المؤسسات، وحياد السلطة، معياراً ضامناً للعدالة والمساواة”.
وفي هذا الصدد، يُعزى تفشي الفساد إلى خرق معيار النزاهة، وسعي الأنظمة إلى فرض مؤسسات وقواعد ملائمة المصالح الأثرياء.
في الأنظمة التي شهدت تحولاً ديمقراطياً ولبرلة اقتصادية، استفز ذيوع الفساد في بلدانها المراقبين، وتساءلوا: لماذا أخفقت الدمقرطة واللبرلة في التخفيف من حمى الفساد النسقي في هذه البلدان ؟ فبقدر ما ارتفعت نسبة الفرص السياسية والاقتصادية ارتفعت معها حوافز الفساد في ظل وجود مؤسسات حديثة النشأة وضعيفة. يستمر تأثير الدولة العميقة ودورها في إفقار السياسات التي من شأنها تفكيك شبكات النفوذ والفساد، الساعية دوماً إلى تقويض كل مسار يفضي إلى تحقيق التكافؤ في الفرص، وينزع الطابع الاحتكاري عن المجال السياسي والاقتصادي بصفة مستدامة.
بالنسبة إلى الأنظمة غير الديمقراطية، يُعد تغلغل الفساد فيها أمراً طبيعياً، وينظر إلى البلدان المستقرة في تسلطيتها، أو التي تعوق فرص التحول الديمقراطي في بلدانها، على أنها أنظمة فساد وحكم سيئ والحوكمة السيئة هنا ليست انحرافاً يمكن تصحيحه، بل إنها هي الأخرى حالة طبيعية؛ بحيث تمارس السلطة بدون حسيب أو رقيب سلطة مطلقة، وفرص الحصول عليها أو على الثروة مقيدة.
وهنا الفساد قاعدة للحكم والتحكم في عنصري القوة ( السلطة والثروة)، وفي المجتمع.
أي أن الدولة والنظام تتجه وظائفهما وغاياتهما، ليس إلى تحقيق الخير العام، بل إلى افتراس المجتمع والفرد، ومن ثم لا مجال للإصلاح ومقاومة الفساد، بل إن انتشار اللصوصية يعزز استقرار النظام المفترس ، وتصبح معارضة نظام الفساد مغامرة خطرة.
ينتشر سلوك الفساد إذاً، ويسود معه الإفلات من العقاب، ويصبح التعتيم عليه وعلى مسالك الفساد، وشبكاته، وحجمه، وآثاره، أمراً ضرورياً.
يتطلب فهم حالة البلدان التي تشهد فساداً ممأسساً (Institutionalized Corruption) أين يكون الفساد مؤشراً لوجود خلل في الأداء الوظيفي للدولة، وحالة البلدان التي تشهد فساداً نسقياً Systemic Corruptio) يكون الفساد فيها رمزاً من رموز الحكم من جهة، إثارة مجموعة من الأسئلة حول طبيعة النظام السياسي؛ وكيفية ممارسة السلطة؛ وحال المؤسسات وأنماط المشاركة؛ والتبادل الموجود بين الفضاء العام والفضاء الخاص.
هناك من الباحثين من يشدّد أولاً، على ضرورة تجاوز المفهوم الضيق للفساد، واستبعاد معنى نظرية الرئيس – الوكيل، أو العلاقة بين الراشي والمرتشي، وفهم الفساد كمؤسسة مثلما يعرفها دوغلاس نورث قواعد اللعبة في مجتمع ما أو بعبارة أخرى، القيود التي يضعها الكائن البشري لتشكيل التفاعل الإنساني.
نتيجة لذلك، فإنها تشكل حوافز للتبادل السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي بين الناس.
أخذاً بهذا المعنى، لاحظ باحث آخر أن التفرقة بين حالة الفساد المعمم، مثل حال كثير من البلدان الأفريقية، وحالةالفساد القطاعي أو المؤسسي، كما هو الشأن في بعض البلدان المتقدمة ، تستدعي تحليلاً مؤسسياً وبنيوياً، لا يكتفي بفهم أداء وبنية المؤسسات القائمة، بل يبحث في البنى غير الرسمية، والثقافة السياسية، والقيم التي تغذي الفساد.