“الأسرة المغربية ودار القاضي”

“الأسرة المغربية ودار القاضي”

بقلم ذ. إبراهيم منصوري

لا شك أن الأسرة، وحساسية العلاقات التي تُكوِّن نسيجها وروابط الدم القائمة على المودة والرحمة بين أفرادها، سواء بين الزوج وزوجته أو بين الأبوين وأبنائهما، مثل الزجاج، لامعة في مظهرها، لكن بمجرد أن يصيبها خدش أو كسر إلاّ واستحيل إرجاعها إلى حالتها الأصلية، العلاقات الأسرية روحية أكثر منها مادية، فلا يمكن لزوجين ولجا المحكمة أن يعودا متصالحين، ولا يمكن للأب الذي رفع ضده أبناؤه دعوى النفقة أن ينظر إليهم نظرة الأب لأبنائه… صحيح بأن النفقة حق، ومستحقات الزوجة حق، وحسن معاملة الزوجين لبعضيهما واجب…، إلاّ أن هاته الحقوق وتلك الواجبات لا تنتزع بالإجبار، لأن الإجبار بخصوص هذه المنازعات يصلح الجزء ويفسد الكلّ، مثلا ما قيمة النفقة إذا تمّ حبس المُنفق والسند أو إكراهه على أدائها.
 طبيعي جدا أنه كلما قصرت المسافة بين الأسرة والمحكمة وكثرت مداخل رفع النزاع الأسري إليها، كلما ضعفت أواصر المودة بين أفراد الأسرة، وتلاشى تبعا لذلك التماسك المفترض في العلاقات الأسرية، فلا تهم جسامة النزاع ولا يهم موضوعه، وأحيانا لا يهم الإثبات حتى يتم رفع النزاع إلى القضاء… وكنتيجة حتمية ومضطردة لذلك يصاب بنيان المجتع ككل بالاهتزاز. ببساطة، لأن الأسرة نواته والأساس الذي يقوم عليه.
تبعا لما قيل، فتغيير المشرع لنظرته تجاه المنازعات الأسرية أصبح أمرا ملحا، إلحاح تفرضه حساسية الأسرة وقدسيتها التي تستدعي تنظيما خاصا، تطبعه  الرحمة ولمّ الشّمل، ومنسجما مع تصورات المجتمع المغربي لهاته العلاقات، فلا يمكن السماح للزوجين عند أبسط خلاف بينهما طرق باب القضاء، فالمحكمة يجب أن تصبح الحلقة الأخيرة في مسلسل الإصلاح، ذلك أن طبيعة العلاقات داخل الأسرة  من العادي أن تعرف مدا وجزر، لهذا فالمشرع المغربي وقبل أي وقت مضى مدعو إلى توسيع المسافة بين الأسرة والمحكمة، مسافة يجب أن تتوسطها مؤسسات الصلح، تكون مهمتها تذويب الخلاف ورفع الحرج عن القضاء. الأخير إن كان من الواجب عليه قانونا إجراء محاولة الإصلاح بين الزوجين فإن نظرة المجتمع للقضاء والرهبة التي تتولد لدى الأفراد عند ولوج المحكمة تجعل جلسة الصلح جلسة تشنج، فالزوج بمجرد أن يخرج من جلسة الصلح يصبح منفتحا على جميع الحلول إلاّ الصلح، ليس رغبة في الفراق، وإنما إحساسا بالمذلة لأن زوجته جرته إلى القضاء رغما عن كبريائه وأنفه، وللزوج في ذاك أقوالا مأثورة من قبيل “وْصلاتني حتى للمحكمة، وْقفاتني قدام القاضي…” .
المشرع عند سنه لمقتضيات مدونة الأسرة وفق مقتضيات توحي في ظاهرها بأن فلسلفتها تقوم على حفظ كيان الأسرة، إلا أنه وضع في باطنها ممرات كبرى ترمي إلى نقل النزاع الأسري من جدران بيت الزوجية المغلق إلى الجلسات العلنية بالمحكمة، مقتضيات حملت فكرا وتصورا جديدا أصبح دخيلا على المجتمع المغربي، فكيف للمجتمع الذي راكم ثقافة أسرية متجذرة في التاريخ والذي منذ عصور يعتمد إصلاح ذات البين لتذويب الخلاف بين الزوجين أو بين الأبوين وأبنائهما، وحتى في حال وصول العلاقة الأسرية إلى حدّ من الشقاق يكون الطلاق الآمن هو الحل بالاستعانة بحكماء القبيلة وعقلاء العائلة، حتى لا يتمدد الخلاف من الأسرة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة ثم إلى القبيلة. أن يقبل بقضاء الدولة كملجأ للصلح الأسري، وهو الذي ينظر إليه منذ عصور آخر العلاج…
ذلك أن المجتمع المغربي القديم كان يؤمن بأن رفع النزاع القائم بين الزوجين إلى “دار القاضي” لن يكون فيه طرف رابح، إيمانا منه بحساسية علاقة الزوجية.
وبما أن نظرة المجتمع نحو القضاء بخصوص المنازعات الأسرية لم ولن تتغير ربما في المستقبل القريب على الأقل،  وأمام فشل الصلح القضائي في كثير من الحالات إن لم نقل جلّها، وأمام أعباء القضاء الأسري الكثيرة، لابد للمشرع أن يغير نظرته لقوانين الأسرة، وأن لا يتعامل معها معاملة المنازعات المدنية و التجارية، وأن يضع نصب عينيه أنه بمجرد ولوج أحد أعضاء الأسرة باب المحكمة بشأن نزاع أسري معناه اختلال النسيج العائلي بداية واهتزاز قوام المجتمع كنتيجة بعدية.
 لهذا فإن إصلاح مؤسسة الصلح الأسري سيكون مدخلا رئيس لتعديل مدونة الأسرة.
فمن الأولى والأجدر بتولي مهام الصلح الأسري؟ وكيف يمكن مأسسته؟ وما هي الفوائد المرجوة من سنه؟
يتبع…
باحث بسلك الدكتوراه تخصص قانون خاص. جامعة محمد الأول بوجدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *