كيف شجّع طفل والدته اللادينية على الصيام معه؟

كيف شجّع طفل والدته اللادينية على الصيام معه؟

“عندما بدأت بالصيام وأنا في سن التاسعة من عمري، شعرت أسرتي بالصدمة من قراري، وحاول والداي منعي، لكنني لم أتراجع عن ذلك لأنني كنت وما زلت مقتنعاً بذلك”.

هذا ما قاله لي جوليان (اسم مستعار) البالغ من العمر 13 عاماً عن سر تعلقه بالصيام رغم لا دينية والدته وإلحاد والده ومعظم أقاربه وتعرضه في بعض الأحيان للسخرية من قبل المحيطين به.

عندما تحدثت إلى جوليان الذي يقيم في بلدة صغيرة في هولندا، عبر الهاتف، بدا لي وكأنه شخص بالغ لذكائه ودقة إجاباته واختيار الكلمات بعناية للتعبير عن رأيه.

تصف والدته نفسها باللادينية، أما زوجها فيصف نفسه بالملحد بكل وضوح.

لم يكن جوليان تجاوز الخامسة من العمر عندما اضطرت أسرته المكونة من والديه وشقيقته إلى ترك مدينة حلب إلى إقليم كردستان العراق و منها إلى تركيا، هرباً من الحرب الدائرة في سوريا، ووصولهم أخيراً إلى هولندا في عام 2016.

لا يتذكر جوليان إلا القليل عن جيرانه ومدينته وطقوس شهر رمضان. ويتذكر “كيف كانت جدته هي الوحيدة التي كانت تصوم في شهر رمضان، وكيف كانت تخلق جواً مميزاً من خلال مائدة الإفطار الغنية بالأطباق المختلفة”.

شقيقته التي تكبره بثلاث سنوات، تهتم بالصحة الجسدية والنفسية والبيئة وتعير اهتماماً بالغاً لمساهمة الأفراد في حماية البيئة والحفاظ عليها، وكثيراً ما تناقش مع شقيقها قضايا مهمة مثل تغير المناخ والصحة النفسية وتحقيق الذات والحرب في سوريا وغيرها من الأمور الحياتية التي غالباً ما تكون عبارة عن مقارنة بين الأفكار والعادات السائدة في الشرق والغرب بحسب ما تقول والدة جوليان.

ورغم صغر سنه، بدا لي جوليان أنه يعلم الكثير عن تفاصيل الحرب في سوريا، ربما بسبب فضوله ورغبته الشديدة في المعرفة وتعلم كل ما هو جديد وطرح الكثير من الأسئلة على والديه.

ولكن، ما سر شغف هذا الطفل بالصيام منذ أن كان في التاسعة من عمره، وكيف حفّز والدته أن تصوم هي الأخرى معه وتخرج بقناعات جديدة في حياتها؟

بدايات

عندما استقر جوليان في مدرسة الحي الابتدائية في هولندا، قبل ما يزيد عن أربع سنوات، تعرف إلى زميل له في الفصل الدراسي يدعى محمد، الذي سرعان ما أصبح من أقرب أصدقائه.

لاحظ جوليان وقتها امتناع صديقه عن الطعام والشراب في المدرسة وعلم منه أنه صائم وأن “الصيام يقرب الإنسان من الله ويرضيه” حسب قوله.

وأوضحت والدته: “في أحد الأيام، عاد من مدرسته وأخرج وجبته المدرسية من حقيبته معلناً أنه صائم مثل صديقه محمد”.

صُعقت الأسرة من قراره المفاجئ الذي بدأ بتطبيقه فوراً دون الرجوع إليها.

حاول والداه ثنيه عن ذلك، وخاصة والده الملحد “خوفاً على صحته ودراسته من جهة ولأنهم أسرة غير ملتزمة بالأديان من جهة أخرى” حسب قول الأم.

لكن جوليان، لم يتراجع عن قراره وتمسك به بشدة، فحاولت والدته التوصل إلى حل وسط، واتفقت معه أن يصوم حتى فترة الظهيرة وأن يتناول وجبته المدرسية التي كانت تعدها له كل يوم.

يقول جوليان: “لم أشأ أن أزعج والداي، في البداية كنت أتظاهر بأنني أتناول وجبتي المدرسية، لكنني في الواقع كنت أطعمها للبط في الحديقة المجاورة أثناء عودتي من المدرسة إلى المنزل، لكنني شعرت بأنني أرتكب خطأ ما لأنني كنت أكذب بشأن الوجبة، لذا طلبت من والدتي صراحة ألا يجبروني على الكذب وقلت لهما إنني أرمي وجبتي للبط كل يوم”.

وأوضح: “كنت قد قررت أن أصوم للتقّرب من الله وإرضائه، فكيف لي أن أكون مقرباً منه وأنا أكذب!”.

“التربية الإيجابية”

رأت الأم التي تقرأ جيداً وتهتم كثيراً بأساليب التربية الحديثة، أن ابنها قد يضطر إلى الكذب وتكون هي وزوجها السبب، وبعد تفكير قررت تقبل الأمر رغم أنها لم تكن مقتنعة، لكنها أرادت الحفاظ على براءته وصراحته وعدم دفعه نحو مستنقع الكذب بحسب وصفها.

ويشجع الخبراء، الآباء والأمهات على توطيد علاقاتهم بأبنائهم باستخدام أسلوب الإقناع والتبرير وإتاحة الخيارات بدلا من استخدام الثواب والعقاب أو الصراخ والفرض.

وتعرف هذه الطريقة في التربية باسم التربية الإيجابية، وقد لاقت ترحيباً واسعاً كونها تجمع بين مزايا التربية الصارمة والمتساهلة التي تمنح الطفل مطلق الحرية ليتصرف حسب رغبته.

وتصف إيميلي إدلين، الأخصائية النفسية في ولاية إلينوي الأمريكية في مدونة “فن وعلم الأمومة”، التربية الإيجابية بأنها “طريقة في التربية مبنية على التقمص الوجداني مع التركيز على التعاطف مع الآخرين والاستجابة لمشاعر الطفل التي دفعته لممارسة سلوكيات خاطئة، عملا بقواعد ونظريات مفادها أن تواصلنا وتجاوبنا مع الأطفال الآن يسهم في تشكيل علاقتنا معهم طوال الحياة”.

لكن خبراء يرون أن التربية الإيجابية قد تؤثر سلباً على الآباء وتحجب عن الأطفال المشاعر السلبية التي سيحتاجون إلى فهمها مستقبلاً.

وثمة عيوب في أساليب التربية الإيجابية، منها أن الأطفال لن يتعلموا كيفية تفسير المشاعر السلبية والاستجابة لها إذا أخفاها الآباء والأمهات عنهم.

وهذا ما حدث مع والدي جوليان، فوالدته قررت أن تكون داعمة لطفلها لئلا يفقد ثقته بنفسه ويجرب الأشياء بنفسه، أما زوجها، فيراوده شعور بعدم الارتياح من خطوة ابنه إلى جانب الخوف من “أن يتطور الوضع وينزلق ابنه في المستقبل نحو التشدد”.

إلا أن جوليان والذي يبدو من طريقة حواره أنه شخصية مرنة وذكية، طلب من والده بلطف معاملته بالمثل، “فكما لا أتدخل أنا في معتقداتك، عليك أيضاً احترام ما أؤمن به، فالقناعات لا توّرث من الآباء بل نتعلمها ونقتنع بها في الحياة”.

وتقول والدته إنها عودت طفليها على قول الصدق مهما كان الأمر محرجاً بالنسبة لهما، وإنها تتعامل معهما كشخصين بالغين منذ أن كانا صغيرين وباشرا بطرح الأسئلة حول مختلف الأمور الحياتية، لذا، لم تشأ الضغط عليه أكثر لأنها بالفعل شعرت بأنها ترتكب خطأً في محاولتها فرض أمر على طفل ذكي ومجادل كجوليان لمجرد إرضاء نفسيهما.

تحدي أم قناعة

تقول الوالدة إن جوليان تلميذ متفوق جداً ومحبوب في المدرسة، وكلما كان يحاول والده تحذيره من مخاطر الصيام على صحته ودراسته، كان يثبت له العكس ويجتهد ويأتي بدرجات كاملة في الفصل الدراسي.

وتضيف أنه في أحد الأيام وبعد فترة قصيرة من وصولنا إلى هذا البلد، طلب معلموه مقابلتنا أنا ووالده لمعرفة سر تميزه وحصوله على العلامات الكاملة متفوقا بذلك على جميع زملائه الهولنديين. كانوا يظنون أننا نحن من نشرف على تعليمه وأننا أساتذة مخضرمين، لكننا وقتها، كنا ما زلنا في مرحلة تعلم اللغة الهولندية.

إصرار

علم والد جوليان من والد صديق ابنه، أنهم لا يسمحون لطفلهم بالصوم كامل النهار بل يفطرونه فور عودته من المدرسة، لأنه طفل صغير لا يقوى على الصوم لمدة 16 ساعة. فعاد الوالد إلى المنزل ليواجه ابنه بالحقيقة، وأخبره أن صديقه الذي يقتدي به، لا يصوم في الحقيقة إلا بضع ساعات في اليوم.

يقول جوليان: “تفاجأت بما قاله والدي، لكن ذلك لم يؤثر على صداقتي به، فهو صديق لطيف وأحبه ولم أنزعج منه، ربما لا يستطيع الصوم كامل النهار لكنني أستطيع ومقتنع بما أقوم به، لذا لم يتغير موقفي من الصيام”.

وتقول والدته إنه عاد في أحد الأيام وسقط أرضاً من شدة التعب والعطش، وعندما أسقيناه ماءً، وعاد إلى وعيه، شعر بالانزعاج لأننا أفطرناه وأبطلنا صيامه لذلك اليوم.

ولا تخفي والدته مدى استغرابها ودهشتها من قوة شخصية طفلها وسلوكه المعارض واستقلالية أفكاره التي اكتشفتها فيه في تلك التجربة. تفاجأت بمواقفه غير القابلة للتنبؤ، وبدأت تتساءل في قرارة نفسها، ما الذي يجعل هذا الطفل متمسكاً برأيه رغم تعرضه للسخرية والانتقاد تارة وشعوره بالجوع والعطش تارة أخرى؟.

شعرت الأم بالذنب تجاهه، لأنه كان وحيداً في مواجهة هذه الانتقادات، وقررت أن تتضامن معه وتصوم وتحضر مائدة رمضانية غنية بأصناف الأطباق السورية المشهورة ليعيش الأجواء الحقيقية في هذا الشهر.

يقول جوليان: “عندما بدأت أمي تصوم معي، شعرت بارتياح كبير وثقة بنفسي وقوة أكبر لأننا أصبحنا اثنين في مواجهة المعترضين على صيامي”.

رحلة البحث عن الله

في البداية، أرادت الأم القيام بذلك لكي لا يفقد ابنها ثقته بنفسه وتزيده من استقلاليته لتمكينه من مواجهة التحديات التي قد يواجهها في حياته.

لكنها تقول إن صيامها للعام الثاني، جعلها تفكر بهدوء وعمق أكثر في فكرة وجود خالق، وخاصة بعد أن تجاوزت صعاب وتحديات كثيرة في حياتها.

“اكتشفت أن الصيام يقربني من الله، الذي فجأة، أردتُ أن أعرف عنه الكثير، وأنهي مقاطعتي له، أو ربما أردت أن أخرج من حالة اللاإيمان إلى الإيمان لأن الإحساس بوجود من يسمعني ويراقبني ويساعدني ويحميني عند الشدائد، شعور مريح، لكنني ما زلت أبحث، فأنا الآن في وسط الطريق، لا أعلم ما يخفيه المستقبل لي”.

مع مرور الوقت، توقف زوجها عن محاولات إقناع جوليان بعدم الصوم ورضي بقرارات ابنه وخاصة بعد أن انضمت الأم إليه ولاحقاً شقيقته، التي تصوم في بعض الأحيان تضامناً معهما لكنها ليست ملتزمة كشقيقها “فهي الآن في مرحلة التعلم حول أصل الإنسان والتناقضات في الروايات الدينية والعلمية”.

قلق من التشدد

أرادت الأم أن تكون مصدر ابنها الأول والموثوق لمعلوماته عن الإسلام، ولا تخفي شعورها وشعور زوجها “بالقلق من أن ينزلق ابنهما نحو التشدد إن لم يجد ضالته عند الدائرة المقربة منه”.

وتقول: “أجيب على كافة أسئلته حول الإسلام والأديان بقدر معرفتي بها، وأوضحت له ما معناه أن الفرق بين جميع الأديان هو فقط إيمان الشخص بدين ونبي محدد، وأن جميعها ظهرت في الحياة لتنظيم حياة البشر باختلاف معتقداتهم وأعراقهم ومكان نشأتهم، وأن المسلمين حالهم كحال أي معتقد أو دين آخر، فيهم السيء والجيد، الطيب والشرير، المتشدد والمعتدل، اللطيف والعنيف، وأن كل إنسان يختار ما يناسبه بحسب تربيته ودرجة تعلمه وفهمه للأمور ومدى تعمقه في القراءة ليختار قناعاته في المستقبل”.

وتضيف: “لو كان اختيار ابني قد وقع على المسيحية أو البوذية أو أي معتقد أو دين آخر، كنت سأدعمه وأقف إلى جانبه كما أفعل الآن، فمن الضروري ألا يشعر الطفل بأنه وحيد أو أنه خارج عن المألوف من أجل صحته النفسية والعقلية”.

ويقول جوليان: “لا أعرف إن كنت سأصبح شخصاً متديناً أم لا في المستقبل، وكل ما أعرفه هو أنني الآن مقتنع بما أقوم به وأشعر بالراحة النفسية والتقرب من الله لأنني أصوم”.

المصدر : شبكة بي بي سي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *