“طالبان”الأمس واليوم
بقلم د. سالم الكتبي
أحدثت سيطرة حركة “طالبان”على العاصمة الأفغانية كابول ومجمل أراضي البلاد زلزالاً جيواستراتيجياً هز أرجاء العالم رغم أن الحدث ذاته لم يكن مفاجئاً بل كان متوقعاً تماماً على الأقل بالنسبة للمتخصصين والباحثين، ولكن المفاجأة جاءت في أغلبها في “السيناريو”الذي تمت به العملية سواء من حيث سرعة ايقاع السيطرة على الاقاليم الأفغانية التي شهدت انهياراً غامضاً للجيش الأفغاني الذي اُنفق عليه نحو مائة مليار دولار، بحسب بيانات وتقديرات مُعتبرة، أو من حيث أحداث ما يمكن تسميته ليلة سقوط كابول، التي كانت كارثية بكل المقاييس الانسانية والسياسية بالنسبة للدوائر الغربية بشكل عام، والأمريكية منها على وجه التحديد.
السؤال الذي شغل بال العالم أجمع، ولا يزال، هو كيف سيكون عليه حال أفغانستان في ظل حكم “طالبان”وهل تعود ممارسات الماضي قبل إطاحة الحركة من الحكم في عام 2001، أم سيشهد العالم وجهاً آخر مختلف للحركة المتشددة؟! الجميع في حالة ترقب والبيانات الرسمية الغربية تنتظر “أفعال”لا “أقوال”، ولكن لهجة هذه البيانات بشكل عام توحي بأن هناك توجهاً ما للقبول بحكم “طالباني”لأفغانستان لو حدث تغير حقيقي في نهج الحركة وسلوكها السياسي.
والملاحظ كذلك أن “طالبان”تحاول تهدئة المخاوف العالمية من خلال حملة علاقات عامة تنفذها عبر أدواتها الاعلامية محدودة الأثر والتأثير، حيث تركز في خطابها الاعلامي بشكل عام على نيتها اقامة “إمارة إسلامية”مع التشديد على أنهم “طالبان”اليوم تختلف اختلافاً “هائلاً”عن طالبان قبل عقدين من الزمن كما قال المتحدث باسمها، ذبيح الله مجاهد في مؤتمره الصحفي الأول من العاصمة الأفغانية كابل، حيث قال “إمارة أفغانستان الإسلامية بعد تحقيق استقلالها، لن تقوم بتصفية حسابات مع أي أطراف في أفغانستان”، مشيرا إلى أن أفغانستان لن تستخدم من أجل إلحاق الضرر بالآخرين، ومتعهدا بأن لا تستخدم الأراضي الأفغانية ضد الآخرين”، معلناً قرار العفو عن “الجميع”، وخص بالذكر المواطنين الذين عملوا مع الحكومة الأمريكية مثل المترجمين وغيرهم وأشار إلى أن طالبان تعفو عنهم جميعا، مضيفا “نعفو عن آلاف الجنود الذين حاربونا 20 عاما”، وأضاف “نعلن اليوم اكتمال وانتهاء عداوتنا لكل من واجهنا في أفغانستان، ولا بد أن نقول بأننا نمر في فترة تاريخية حالياً”.
إلى هنا والحديث يبدو مقبولاً دولياً، ولكنني اعتقد أن الأمر سيتضح أكثر عقب الدخول في تفاصيل تنفيذ هذه الخطوط العريضة المعلنة، فالمخاوف الاقليمية والدولية لن تهدأ بإعلان نوايا، بل بطبيعة الخطوات التي ستتخذها الحركة على أرض الواقع، وفي مقدمتها كيف ستقيم نظاماً إسلامياً؟ وماهي طبيعة هذا النظام؟ وماهي قدرته على احتواء بقية الأطياف السياسية والعرقية والدينية في البلاد؟ فكل أحاديث الحركة وتصرفاتها التي تمت ـ حتى الآن ـ تحتاج إلى بعض الوقت للحكم عليها، لأنها لا تخفي أن كل الأمور ستدار من خلال منظور يمزج بين رؤية الحركة الدينية وقيم وعادات المجتمع الأفغاني، وخلاصة هذا المنظور هي ما يمكن الحكم عليه خصوصاً في موضوعات شائكة ومعقدة مثل حقوق المرأة والحريات وحقوق الانسان وغير ذلك من قضايا لا يمكن إصدار أحكام مسبقة بشأنها في الوقت الراهن اعتماداً على الخطاب الاعلامي للحركة.
الخلاصة أن كل جزئية من الجزئيات التي كانت مثار قلق وخوف عالمي لا تزال كذلك رغم تطمينات مسؤولي الحركة، فالسماح بظهور مذيعات التلفزيون لا يوفر بالضرورة ضمانة لحقوق المرأة، وحديث ذبيح الله مجاهد وطمأنته للعالم “بأن حقوق المرأة محفوظة وفق الشريعة الإسلامية”، وإشارته إلى أن المرأة سيسمح لها بالعمل في البلاد، قد يمث بادرة ايجابية ولكنه يبقى رهن الممارسات على أرض الواقع بحسب تجارب سابقة لحكم الأيديولوجيات الدينية، فنظام الملالي الثيوقراطي في إيران، المشابه تماماً، يتفاخر بأنه يوفر للمرأة الايرانية حقوقها كاملة، ولكن الواقع يعكس صورة مخالفة تماماً، فالحريات في مثل هذه الأنظمة تمنح بحسب تصورها ورؤيتها لمفهوم الحقوق والحريات وليس بحسب ما استقرت عليه القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.
يقول الكثيرون أن “طالبان”قد استوعبت درس الأمس وأنها تخرج إلى العالم بوجه مغاير تماماً لما رأه في الماضي، وهذه فرضية تحتاج إلى التثبت والتيقن بالأفعال لا بالأقوال، ولذا يجب ألا تندفع دول العالم وراء مصالحها الضيقة في التعامل مع الحركة لأن الاعتراف بهذا النظام من دون اكتمال مقومات الدولة بمعناها الحقيقي ولاسيما ما يتعلق باحترام قواعد القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية، يعني هذا أن العالم يشجع مثل هذه الأنظمة مادامت تراعي مصالح القوى الكبرى، ووقتها سيدفع الجميع الثمن كما هو الحال مع انظمة أخرى مثل ملالي إيران وغيرهم.