المغرب / واحة فجيج : مستحمات الواحة منة ونعمة ،طهارة للروح ،استجمام ورمز مجد وصمود (2)
اعداد محمد اعمر
سلسلة حديث الأمكنة:
سلسلة ” حديث الأمكنة ” عبارة عن حلقات مستوحاة من جهة وبشكل مباشر من قصة ” ساعة احد الجوامع ” بواحة فكيك تمنيت منذ زمن ان اترجم لها في شكل مقال بما اتيح لي من معلومات بخصوصها وبما علق بذهني من ذكريات وانطلاقا من تقدير شخصي أنها تستحق العناء والكتابة، ومن جهة أخرى مستوحاة وبشكل غير مباشر من وجود دافع ذاتي له علاقة بالمشاعر وبالروح وبالوجدان وبما يربطني بالأماكن العتيقة عموما وبالواحة خصوصا من علاقة جذب وما يستهويني فيها وما يلفت انتباهي إلى بعض تفاصيل الحياة بها وما اشعر به بين أحضان أمكنتها وأزمنتها من دفئ وراحة ومتعة وسكون وطمأنينة.
المكان العاشر(الجزء الثاني): مستحمات الواحة منة ونعمة، طهارة للروح، استجمام ورمز مجد وصمود
” البحبوحة ” اكثر من مجرد مكان للاستحمام وللاستجمام ، انها طهارة للروح قبل البدن ،ترمز للعطاء وللخصوبة وللخير العميم ، ترمز للثراء وللجود والسخاء، ترمز للنقاء والصفاء و هذه الرمزية جعلت من عرف مرافقة العريس اليها في موكب احتفالي بهيج ووفق طقوس معينة تقليدا لا يتم التفريط فيه بسهولة الى يوم الناس هذا ،حتى وان وجد بالدار حمام عصري من زليج بل من مرمر ورخام وبمواصفات عالمية و به جميع انواع العطر والطيب والصابون بعدما انعم الله على الاباء والاسر والعيال وتبدل الوضع من حال الى حال وودع الناس والحمد لله حياة الكفاف حتى لا نقول حياة الفقر وضنك العيش .
جمع غفير في منزل العريس من كل الاعمار ،نساء ورجال ، اطفال وشيوخ ، الوقت بعد صلاة العصر سيحظى الحضور بشرف مرافقته ذهابا وايابا الى” البحبوحة ” مشيا على الاقدام بل كل من تتم مصادفته في الطريق يجرفه التيار ويلتحق بالمسير دون حاجة الى دعوة او استئذان حتى ولو لم يكن من العشيرة او الصحب او الخلان ، مجمر تحمله سيدة عادة ما ترافق العروس طيلة الأيام ،تغذيه من حين إلى حين بخليط من عود الند و انواع البخور، تختارها بكل عناية ، رائحة عطرة زكية لا يعكر طيبها سوى اعتقاد سائد فاسد لا اصل له في الشرع في القدرة الخارقة للبخور على “التصدي لضربة عين ” قد تكون قاتلة .
وعلى إبطال مفعول السحر و العكس و التقاف وعلى طرد شياطين الانس والجن ووقاية من شر الخلق و”سلاح” فعال لرد الكيد في النحور.
فرق فلكلورية في الموعد يتقدمهم العريس او ” مولاي السلطان ” يشد ازره ” وزير” او اكثر من ” وزير” صديق ، ابن عم ، ابن خال ، ابن جار… غيطه ، ضرب على الطبول والدفوف ، ،زغاريد واهازيج ،اناشيد يحفظها الكبار والصغار من مثل تلك التي استقبل بها رسولنا الكريم اول مرة في يثرب ، رقصات بدوية وبارود ، حمد وشكر، قران ودعاء “فما خاب عبد قصد مولاه” وختم بعد استحمام لعل وعسى ان يذهب عن العروسين رجس الشيطان ،وينعم عليهما بالسعادة والهناء وبالرفاه والبنين وببحبوحة من الطيبات ومن الرزق الوفير.
للزوجة نصيب من هذه النعمة ولكن بقليل من الاحتفالية ومن البهرجة والطقوس يرافقها الى المستحم الخاص بالنساء عدد محدود من القريبات والصديقات قبل ان تزف الى بيت زوجها زغاريد وبعض الدفوف تشي بان المناسبة زفاف.
عيون اخرى ليست عنا ببعيد ، فأينما تولي وجهك فثم مغاسل ومستحمات هنا وهناك مسماة بالعربي والامازيغي وبتسمية الذكر والانثى من “افلي نعلي” ، ” افلي نواشون ” ،“بوغردا “و “مغني” الى ” افلي نصالح” ” تزادرت ” الى ” تجمالت ” ” كاكا ” و” تافراوت ” وهلم جرا هي كتاب مفتوح وشاهد عيان على العصر و صورة حية اخرى تنقلنا الى زمن كد الاجداد وكدحهم فقد نقبوا عميقا في جوف الارض بجهد جهيد وبإصرار وصبر وعزيمة وصمود دون كلل او ملل وبوسائل بدائية عتيقة ،مدوا القنوات وشقوا الخطارات ، بنو الصهاريج ،غرسوا لناكل وشيدوا الدور والقصور والزوايا والخزانات والمساجد والمدارس فبنو حضارة وخلفوا امجادا .
من اجل بلوغ النبع لا بد من رحلة طويلة تنطلق من السطح نحو باطن الارض تقتضي احيانا عبور سلم يزيد على مائة درجة هبوطا ومثلها صعودا مع نقص في الاكسجين كلما توغلنا نحو العمق ،ظلام حالك لا يبدده سوى ضوء الفتيلة او القنديل او الشمع او مصباح الجيب في يوم الناس هذا وكما شق الاوائل الصخر وكسروا الحجر فتفجر الماء عيونا وينابيع ،تشق انت ايضا طريقك بخطوات حذرة وثابتة في زيارة نحو النبع لتبتل العروق ولتذهب الظمأ و لكن لتسافر ايضا عبر الزمن ولتكتشف المجهول ولتغوص في اعماق التاريخ و تساؤله ولتنبش في الذاكرة وتحييها ثم تعود بعد هذه الرحلة الطويلة الى السطح الى الحاضر بمشاعر قد يمتزج فيها الفخر والانتشاء والسعادة والاعتزاز بمشاعر الأسف والتأفف وتفتح عينك من جديد على نور الشمس لتستخلص ما يمكن استخلاصه من دروس وعبر عن صبر الاجداد واصرارهم وكدهم وكدحهم ومكابدتهم لتساؤل واقع الحال والى اين المآل؟؟؟.
موعدنا بحول الله مع مكان آخر و حديث آخر
👍👍👍🌴🌴🌴