المغرب / واحة فجيج : مستحمات الواحة منة ونعمة ،طهارة للروح ،استجمام ورمز مجد وصمود
اعداد محمد اعمر
سلسلة حديث الأمكنة:
سلسلة ” حديث الأمكنة ” عبارة عن حلقات مستوحاة من جهة وبشكل مباشر من قصة” ساعة احد الجوامع ” بواحة فكيك كنت اتمنى منذ زمن ان اترجم لها في شكل مقال بما اتيح لي من معلومات بخصوصها وبما علق بذهني من ذكريات وانطلاقا من تقدير شخصي أنها تستحق العناء والكتابة، ومن جهة أخرى مستوحاة وبشكل غير مباشر من وجود دافع ذاتي له علاقة بالمشاعر وبالروح وبالوجدان وبما يربطني بالأماكن العتيقة عموما وبالواحة خصوصا من علاقة جذب وما يستهويني فيها وما يلفت انتباهي إلى بعض تفاصيل الحياة بها وما اشعر به بين أحضان أمكنتها وأزمنتها من دفئ وراحة ومتعة وسكون وطمأنينة.
المكان العاشر(الجزء الاول) : مستحمات الواحة منة ونعمة ،طهارة للروح ،استجمام ورمز مجد وصمود.
“فكيك” واحة العيون والينابيع والمغاسل والمستحمات بالعشرات وبمختلف المسميات ، ” البحبوحة” ، ” شي بلاشي ” ،“تزادرت ” ، ” مغني” ، ” تجمالت “… ، هبة من الله ونعمة ومكمن سر الاعتناء منذ القدم بنظافة المكان والثوب والبدن. يسره فسلكه ينابيع تسيل فوق سطح الارض أو جعله غورا لا ينال الا بعد شق الصخر وتفتيت الحجر. بعضها على شكل مستحمات، عادة ما تجاور المساجد تلبية لحاجات روادها ولما تستوجب العبادة في عقيدتنا من وضوء وطهارة واغتسال او لإزالة الوسخ والغبار بعد يوم عسير من الكدح والعمل ،وضعت لبعضها اوقافا ضمانا للعناية بها ولاستمرار خدماتها .
منطقة ” اجديـــر ” خزان لا ” ينضب”، جسدت عبر التاريخ جدلية الحياة والموت، ولقد جرت العادة في هذه السلسلة ان نعرض عن الخوض في تفاصيل المعنى وفي اصل التسميات وما ان كان امازيغيا ام عربيا ام اعجميا… فذلك شان ذوي الاختصاص في علم اللسانيات واصول الكلمات لنكتفي بما نعتقد انه يفي بالغرض.
“اجديــــر” اسم يحمله اكثر من موقع بالمغرب وقد يعني لدى البعض مكانا لخزن الحبوب والمجوهرات واغراض اخرى، ولدى البعض الاخر مجرد تضاريس. المهم اننا فتحنا اعيننا منذ الصبى على منطقة بالواحة تسمى بهذا الاسم فوجدناها ساحة فيحاء تسع الجميع من مختلف الاعمار والفئات والديانات والعقليات سمر وسهر ، جدال و نقاش ،جد وهزل ، دخان وحشيش …لوحة طبيعية فنية من ماء غير اسن ،نخل باسقات ، عصافير ،حمام ويمام، الوان زاهية ، شمس ،غيوم وظلال ، ،بدر ونجوم ،اسوار وابراج من طين شامخة صامدة ،منطقة هادئة ذات بهجة تأسر الالباب زادها سحرا مجاورتها للمسجد العتيق وصومعته الحجرية الثمانية الشكل بعمر سيدنا نوح عليه السلام، فضاء يعانق السماء مفتوح على الطريق الى ان اصبح مضرب المثل حيث يتم تشبيه ترك باب المنزل مشرعا بأجدير.
بهذه المنطقة مستحمات ومغاسل يجاور بعضها البعض هذا خاص بالنساء فقط وذاك بالرجال، ثالث بالشباب والمراهقين ، يجاوره اخر للصبية والاطفال ، خامس لليهود وسادس خاص باليهوديات … اهمل بعضها فلم تعد حتى اثرا بعد عين.
استطاعت ” البحبوحة ” ان تصمد في وجه تقلب الدهر وغدر الانسان والزمان ، تتميز بهندسة معمارية غاية في الاتقان، سقف مقوس من حجر يشد بعضه بعضا وبنيان مرصوص ،باردة صيفا ودافئة شتاءا مظلمة حتى وان كان النهار سراجا وهاجا فلا مناص من الاستعانة بالشمع او بالقنديل ، مياه صافية نقية ، تتجدد على مدار الثانية لا يعكر صفوها سوى سلوك شاذ همجي ممن يفسدون في الارض ولا يصلحون ، لا يتحرجون من قضاء حاجتهم على جنباتها مخلفة روائح مقززة كريهة تزكم الانوف وتفسد متعة الاستحمام و الاستجمام .
بعد الظهيرة من الافضل ضرورة ملازمة الدار لأخذ نصيب من القيلولة تجنبا لضربة شمس حارقة فالوقاية خير من العلاج واي علاج ؟ تلك هي نصيحة ” العقلاء الكبار” ولكن للأطفال احيانا اذانا لا يسمعون بها فشقاوتهم ونزقهم وتهورهم تسبق النصح والوعظ. فهل يا ترى كان هذا النصح يخفي ادراكا ايضا بمدى خطورة اختلاط الاطفال واليافعين بالرجال وبالشباب المراهقين بمثل تلك الاماكن المظلمة ؟ او كأني بهم يرددون في قرارة انفسهم المثل الشائع “لا تأمن لا تستأمن في بلاد الامان” و” لا ترقد وبات عساس ” ؟؟
فقد يحصل ان يقع الاطفال ضحية استدراج احدهم لحاجة خسيسة في نفسه. لا ادري الله اعلم.
وبعيدا عن هذه التخمينات والهواجس والافتراضات تبقى المنطقة ومحيطها ،مكان جذب بامتياز وبلا منازع ، وبقعة مفضلة لدى الكبار قبل الصغار خاصة مع عطلة الصيف ” العطلة الكبيرة ” بعد توديع حجرات الدرس والتربية والتعليم من غير اسف وركن تلك الادوات المتواضعة الى حين، لوحة وطباشير وكتيبات.
مع وجود بعض الضيوف من الاقران من داخل الوطن ومن خارجه تكتمل البهجة والسعادة والغبطة ويحلو التجوال والترحال ، زمن غير يسير ،نصف يوم تقريبا يقضيه هؤلاء متنقلين و”متسكعين” بين مختلف أماكن العوم والسباحة ،حفات عراة الا مما يستر العورة، بشرة تزداد سمرة مع مرور الايام دون الحاجة الى دهن او مرهم واق، فلا تأثيرات جانبية ولا حروق ولا حوادث غرق تذكر الا في النادر ،الكل يحسن ويتقن العوم ، وهم يجوبون الازقة والممرات والشعاب والحفر والسواقي، المرتفعات والمنحدرات تفتح شهيتهم وتغريهم بعض اغصان الاشجار المثمرة المطلة على الزقاق بالقيام باقتحام البستان دون استاذان من اجل وجبة تفاح او خوخ او مشمش او تين او رمان الا انه اقتحام مشوب بالحيطة والحذر فمن يدري فقد يكون صاحب البستان قد اخلف هو ايضا موعده مع القيلولة وقام بجولة تفقدية وهو الان بصدد رصد تحركاتهم وسماع صياحهم وهرجهم بل وحتى همساتهم تحسبا ” لزيارتهم” المحتملة ،من حسن حظهم لقد ” سلمت الجرة هذه المرة ” فالمكان خال الا من بعض السحالي والزواحف الصغيرة التي ما ان تستشعر حركة ما حتى تولي هاربة في سرعة البرق او بعض العصافير واليمام التي تحرس العش وتحضن البيض وتحمي الفراخ وقد لا يكتفي البعض منهم بملا البطون والجيوب بل قد تمتد يد رعونتهم الى انتهاك حرمة الحقول وتخريب بعض المنشآت والعبث بثمار بعض الاشجار حتى قبل ينعه او بسواقي مياه الري، سلوك تترتب عنه بعد وشاية وبعد البحث والتقصي مسؤولية الاباء التقصيرية وعقوبات وغرامات قد تصل الى “عشر دينار” ايام سيادة القوانين العرفية وحكم الجماعات السلالية او شكايات لدى مصالح الامن والشرطة في يوم الناس هذا.
جنح الليل او مع الفجر والناس نيام الا من مريدي المساجد ، هو الوقت المفضل لدى النسوة للتوجه الى السواقي والى المغاسل او المستحمات بعيدا عن العيون وتعقب الانظار ، من اجل الاستحمام والطهارة والاغتسال او هن محملات بالمواعين والقدور والصحون بحيث تكفي حفنة من تراب لإزالة ما علق بها من بقايا الطعام او من دهون. اما الملابس والصوف والاغطية و الافرشة فمادة ” الغسال ” النباتية الطبيعية بالمرصاد ،وحدها تفي بالغرض ،حيث لا صابون ولا مسحوق ولا ضرر على الحرث ولا على الزرع ولا على الثمر ولا على الطير.
رغم اقصى درجات الحيطة والاحتراز فقد وجد مع الاسف حسب بعض الروايات القديمة والعهدة على الراوي من كان يترصدهن متربصا للتسلل سرا الى ” خلوتهن ” وهن غافلات منشغلات محاولا التلصص من بعيد واستراق النظر متحينا لحظة الكشف عن بعض المفاتن فلكل زمن اشراره وخسيسوه.
يتبع بجزء ثان