د. محمد البندوري وسؤال الخط

د. محمد البندوري وسؤال الخط

معاد الزهراني

  • خلفية الخط في المغرب

الخط العربي بالمغرب ليس خطا للفسحة فقط، وإنما له خلفيات مرجعية، فهو كيان حضاري له أسسه الروحية، وله مقوماته الوطنية، وله بعد استراتيجي في التنمية الثقافية والفنية والاجتماعية والاقتصادية، وله تأثير في مختلف القضايا، لأن له تاريخ عريق يمتد إلى أكثر من ألف سنة وله كذلك خلفيات جمالية تتغذى من هذا التاريخ وتروم التطور الفني تماشيا مع تطور الحضارة المغربية.  لذلك اتخذ الخط في المغرب صبغة تحولية، يعني تحولَ في شكله تبعا لعدة خصوصيات تتعلق بالجانب الثقافي والاقتصادي والطبيعي فأصبح من الخط العربي الخط المغربي أنواع كثيرة أشهرها الخط المغربي المبسوط والخط المغربي المجوهر والكوفي المغربي والثلث المغربي والمسند المغربي والخط المغربي الصحراوي.

وقد كانت للخط المغربي منذ الوهلة الأولى من تاريخه خلفية اكتسبت مشروعيتها في نقل الحروف ليست باعتبارها حروفا نفعية، ونقل الأشكال ليست باعتبارها أشكالا نفعية، بل باعتبارها مؤثر في الحضارة المغربية، تكتنز الكثير من الدلالات وتضمر بعض المعاني الفكرية، وتخضع لعدد من التأويلات الباطنية. فهي حتما موصولة بالحس الديني والثقافي والاجتماعي والسياسي بالمغرب منذ الفترة الإدريسية التي مثّلت حلقة بنائية بمضامين وأحداث تحكمت في التكوين الخطي، فشكلت مادة فكرية وثقافية وفنية لتثبيت أشكال الحروف الكوفية وفق الفكر الذي برز في مواضيـــع ذات بعد فكري معين خاصة في السكة النقدية، لبناء شكل خطي مغربي فيما بعد، مختلف عن الشكل السابق. كذلك ظل هذا الخط يتطور بخلفيات لها أبعاد تواصلية وجمالية وروحية حيث اتصل الخط المغربي بمجال التصوف وبنشر الجمال والإبداع ونشر النصوص الدينية في أبهى حلة تواكب جمال الكلمة القرآنية وبلاغتها وبيانها بالشكل الذي يروق البصر كما يروق السمع.

2-  وضع الخط وتعليمه في المغرب

يشكل الخط في المغرب أهمية كبيرة في النسيج الثقافي والفني والمعرفي، إذ ظل وضع الخط ساميا يحظى بمكانة خاصة وإيجابية جدا على مر التاريخ. ونظرا لهذه المكانة السامية فقد ظل تعليمه متوارثا جيلا بعد جيل من المشايخ إلى الطلبة. ولا يزال هذا العرف ساريا إلى اليوم، بل بشكل أفضل بكثير. فلا شك أن إحداث جائزة الملك محمد السادس في الخط المغربي بمبادرة ملكية سامية قد كان لها انعكاس إيجابي جدا على وضع الخط وتعليمه بالمغرب في الفترة المعاصرة، وكان لها كذلك انعكاس على المجال الثقافي والمعرفي والعلمي بالمملكة المغربية، ما عجل بظهور ركام علمي جديد، ومرافق خطية حديثة، الأمر الذي أسهم في تأكيد أهمية الخط ببلادنا، وأضحت الحاجة ملحة للخطاطين لكي يمدوا القطاعات العلمية والمعرفية والثقافية والتنموية والاقتصادية بمزيد من الإنتاجات الخطية والفنية، فتجلى الخط المغربي في عدد من الأوراش ذات القيمة العالية.  فتكللت كل المجهودات التي يبذلها الخطاطون المغاربة، وتبذلها كل الجمعيات التي تهتم بالخط بالنجاح، منها أكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء، والمراكز والمدارس بمختلف المدن المغربية؛ فأثمرت جيلا جديدا من الطلبة، وأسهمت في تحقيق خطية الخط، بل وجعلت للخط مساحة إبداعية غزيرة بالإنتاجات قوامها التنوع في الجماليات وتوظيف عدد من الخصائص الفنية والتقنيات العالية ظلت تنقل نبض الخطاط إلى العالم، وقد أسهم هذا الوضع الثري والغني بالتنوع في المادة الخطية؛ في لفت النظر إلى المجال الإبداعي المدجج بتقنيات مغايرة للمألوف خاصة في الخط المغربي، مما جعل الخطاب الخطي بالمغرب يحمل دلالات قيمية وجمالية وتواصلية تجلّت في مرجعيات خطية تنظيرية، ومرجعيات خطية ممارساتية مغربية، يشهدها الواقع الخطي المغربي المعاصر، فصدرت مجموعة كبيرة من المؤلفات ذات قدر جليل، ومكانة علمية رفيعة في فن الخط، منها ما يعنى بالخط تنظيريا ومنها ما يعنى به تطبيقيا وتاريخيا. وهناك مقالات كثيرة جدا عن الخط بالمغرب، متناثرة في المجلات العربية والصحف الدولية لعدد من المثقفين المغاربة. وكذلك العديد من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والموائد المستديرة حول الخط.  وكل هذا يؤشر على الوضع المزدهر للخط بالمغرب. والذي يمكن تصنيفه وفق التنوع الثقافي والمعرفي والفني وما يترتب عن ذلك من تنوع على مستوى الخطاطين.

وبخصوص تعليم الخط فقد بزغ تعليمه وتهذيبه في الساحة الخطية في هذا العهد العلوي المجيد من طرف الخطاطين النبلاء والأساتذة الباحثين الأكابر من خلال مراكز رسمية ُتشكل مدارس خطية عالمة لتعليم الخط، ويتخرج منها أجيال متفقهة ومتقنة لشؤون الخط وجمالياته وفنونه. وهناك مراكز أخرى تابعة لعدد من الجمعيات وهيئات المجتمع المدني  تدرس الخط وترفع من وثيرته، وذلك لما راكمته من خبرات في المجال .

3– دور الخط في العلاقات بين الثقافات

يشكل الخط حلقة تواصلية مهمة سواء بين الأجيال من حقبة تاريخية إلى أخرى أو سواء بين الأمم. فللخط دور فاعل في شتى المجالات الحيوية، وله انعكاس كبير في إعطاء دفعة تواصلية  قوية بين الدول لأنه مثير ومتفاعل مع كل القطاعات العمرانية والثقافية والفنية، ويشكل حلقة وصل بين كل البقاع. فهو فن يوطد أواصر العلاقات، ويؤكد عروة التواصل بين الثقافات، بل وإنه يجسد خاصيات التبادل الثقافي والفني والجمالي وتبادل الأفكار  وتثمين مجالات المعرفة بشكل أمثل، لأنه يسهم في اكتساب المهارات واكتساب المعلومات في مختلف الأقطار. فهو ليس مجرد أداة جمالية بقدر ما هو  سلسلة فنية لإدماج المفاهيم وحمل الإضافة وصنع حيز من التوليف  الثقافي برؤى متجددة.  فهو يعكس تلك الحياة الفنية والثقافية برسائلها القيمية لخلق تقارب على مستوى الأفكار والتصورات. وبذلك يلعب الخط دورا هاما في توطيد التواصل على شتى المستويات وتثمين الحوار الثقافي بين الدول. فهو جسر فني لتقوية العلاقات الثقافية، ووسيلة حية لدمج الرؤى وتحقيق التطلعات المفيدة. فالأعمال الخطية تدعم بعضها البعض عبر التواصل في صنع هذه العلاقات حيث تسهم اللوحات الخطية والخطاطون والملتقيات الخطية والمعارض والندوات في تعزيز التقارب بين الشعوب والدول. فالخط عامل قوي في التأثير، وفي خلق فرص التبادل، وفي وصنع مساحة من الود والتقدير بين الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *